Skip to main content

الطرقات الجبلية ومساكن اللاجئين، حيث انطلقت "البداية الواعدة"

عندما حطت بنا الطائرة في مطار بولي الدولي في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، أدركت حينها أن حملة "البداية الواعدة" لم تكن مجرد حملة تسويقية عادية؛ حيث توجهنا على مدار 13 يوماً التالية إلى واحدة من أبعد المناطق النائية في إثيوبيا، ثم إلى مخيمات اللاجئين المترامية في لبنان.

قطعنا مسافات طويلة لمقابلة الأمهات والآباء كما نفعل عادةً؛ ولكن هذه المرة لم تكن منتجات العناية بالأطفال على رأس جدول أعمالنا، وإنما كنّا هناك لتسليط الضوء على قضية حساسة تؤرق الملايين من الأهالي: وهي المواليد الجدد غير المسجلين.

وبالنسبة لي، كانت هذه رحلة شخصية بقدر ما كانت رحلة عمل.

وبصفتي مدير التسويق لمنتجات العناية في "جونسون للأطفال"، كان روتين الحياة اليومية يفرض عليّ النظر إلى أغلب المهام من منظور تجاري. ولكن حملة "البداية الواعدة" كانت مختلفة تماماً، ولهذا أوقدت في نفسي الشغف للقيام بهذه الرحلة. وبالنسبة لعلامة تجارية تستثمر في المجتمعات مثل "جونسون للأطفال"، أرى أنه من واجبنا العمل على تحسين حياة الأشخاص كيف ما استطعنا ذلك - وبما يتخطى حدود المنتجات التي نقدمها. وتتيح لنا حملة "البداية الواعدة" القيام بذلك من خلال إحداث فرق ملموس ودائم في حياة العائلات والأطفال والأجيال القادمة.

والآن نستطيع أخيراً سماعكم.

في صباح اليوم التالي لوصولنا، التقينا بممثلي شريكنا في الحملة مؤسسة Save the Children، واستقلينا مركباتنا خارجين من المدينة باتجاه قرية شاورا كيبل في مقاطعة إنديجيجن لمقابلة عائلات الأطفال غير المسجلين. وقد كشفت لنا هذه الرحلة التي استغرقت 6 ساعات ونصف من العاصمة لماذا يعجز 82% من قاطني تلك المناطق النائية في إثيوبيا عن الوصول إلى برامج تسجيل الولادات، وبالتالي الحصول على شهادات ميلاد لأطفالهم. كانت القرية تبعد مسافة ساعتين ونصف عن أقرب مركز تسجيل، وكان الوصول إليها يحتم علينا اجتياز الكثير من الطرق الوعرة وسفوح الجبال والأنهار. وبدا المشهد غير مألوف وإن كان متوقعاً – فالمكان كان عبارةً عن مساكن بدائية تفتقر إلى موارد الكهرباء والمياه.

وبعد أشهر من التخطيط وساعات من السفر، حان الوقت لسماع الأهالي وهم يتحدثون عن الأضرار التي يتسبب بها عدم تسجيل أبنائهم في هذه المنطقة، وعددهم بالتحديد 91 مليون طفل.

استقبال حار

لاحقتنا الوجوه الصغيرة المبتسمة في أنحاء قرية شاورا كيبل، ودعتنا جميع العائلات التي قابلناها بكرم بالغ إلى منازلها، حيث قدموا لنا الطعام رغم أنهم لا يملكون ما يكفيهم. وقد رافقتنا هذه الطاقة الإيجابية والتفاؤل طوال زيارتنا.

وكانت ليا، أول أم قابلناها، تشكل مثالاً حيّاً عن المعاناة التي يسببها عدم امتلاك شهادة تثبت تاريخ الولادة. فقد فوت ابنها البكر سام عدداً من السنوات الدراسية التأسيسية المهمة لأنه لم يكن يملك شهادة ميلاد تثبت عمره. ففي إثيوبيا، لا يتلقى الأطفال غير المسجَّلين التعليم المدرسي، إلا بعد تحديد أعمارهم بشكل تقريبي من خلال صفاتهم البدنية، كالطول مثلاً. وكان يمكن أن تكون العواقب أسوأ بكثير بالنسبة ليا. وأعربت أم أخرى قابلناها تدعى تاركيش عن قلقها على ابنتها. فإذا تم اختطافها وإجبارها على الزواج، لن تتمكن من طرح قضيتها أمام القانون دون إثبات تاريخ ميلاد طفلتها وعمرها. إن هذا اليأس شعور لا تقوى الكثير من الأمهات حتى على مجرد تخيله.

وبعد أن أمضينا 5 أيام في إثيوبيا، توجهنا بالطائرة إلى بيروت وقمنا برحلة في السيارة لمدة ساعة ونصف إلى مخيم للاجئين شرقي البلاد، لنجد ذات المخاوف والتجارب التي سمعناها في إثيوبيا. وفي حين كانت المسافات ووسائل النقل تشكّل عائقاً يحول دون تسجيل الأطفال في إثيوبيا، فإن برامج التسجيل غير موجودة أساساً في مخيمات اللجوء في لبنان. ورغم كثرة المصاعب التي تواجه كل عائلة لاجئة هنا، إلا أن الولادات غير المسجَّلة تُعدّ من أكثر المشاكل إلحاحاً.

وأعرب الأهالي الذين تحدثنا إليهم في المخيم أن أكثر ما يثير مخاوفهم من عدم تسجيل أطفالهم هو ضياع الكثير من الفرص عليهم؛ فقد يصبح التعليم، والرعاية الصحية، والحقوق المشروعة بموجب القانون بعيدة المنال عندما يكبر الطفل دون شهادة ميلاد. ورغم أن جميع العائلات التي تحدثنا إليها أظهرت أنها تدرك هذه المشكلة جيداً، ولكن أكثر ما أثار مشاعري- سواء في لبنان أو إثيوبيا- هو التفاؤل والروح الإيجابية التي ما زال يتحلى بها الأهالي رغم الظروف الصعبة التي يعيشونها.

والسبب في ذلك هو ما رأيناه جميعنا على أرض الواقع- أطفال أذكياء، تملؤهم الحيوية والطموح، ولا ذنب لهم إطلاقاً في الظروف القاهرة التي يعيشونها. سأل أحد الآباء، واسمه علي، ابنته الصغيرة عما تريد أن تصبح عندما تكبر، فأجابته: "طبيبة". وأخبرتنا أمٌّ أخرى، تدعى ليلى، بعيون تملؤها الدموع كم تتوق للعودة إلى منزلها في سوريا عندما يصبح الوضع آمناً هناك، ولكنها لن تستطيع اصطحاب أطفالها معها ما لم تتمكن من الحصول على شهادات ميلاد لهم. وفي الملاعب المؤقتة حيث كان الأطفال يركضون بالطائرات الورقية ويحملون دمىً من صنع أيديهم، تحدثنا إلى الأطفال أنفسهم. تحدثنا إلى رواد الفضاء، ومصممي الملابس في المستقبل، وسألنا أحد الأطفال عما يرغب أن يصبح عندما يكبر، فأجاب: "طيار"؛ وعندما استفسرنا عن سبب هذه الرغبة، أجاب: "لكي أستطيع العودة إلى وطني".

وتكمن الحقيقة المؤسفة بأن وثيقة يعتبرها الكثيرون منا أمراً مسلّماً به، تقف حاجزاً أمام تحقيق العديد من هذه الطموحات. هل تعرف مكان شهادة ميلادك الآن؟ لا أستطيع أن أجزم بذلك، لكنني أعرف أنها موجودة. فالأطفال غير المسجلين لا يتمتعون بأبسط الحقوق ويفتقرون لسبل الحماية الأساسية. وفي الحالات الأكثر سوءاً، يكبر هؤلاء الأطفال على هامش المجتمع وتقودهم ظروف النزوح وانعدام الفرص والميل نحو الجريمة إلى مسار حافل بالاضطرابات يكاد يخلو من أي أمل أو فرصة بالنجاة. ومن هنا تأتي أهمية مبادرة "البداية الواعدة".

وفي إطار مبادرتنا، تتعاون "جونسون للأطفال" مع مؤسسة Save the Children لردم الهوّة وتسجيل الأطفال غير المسجلين وبالتالي تغيير مسار حياتهم. ونعمل على ذلك من خلال توفير فرص التدريب اللازم وتنظيم ورش العمل للموظفين من الجهات الحكومية الرئيسية في إثيوبيا بما يؤهلهم لإتمام عمليات التسجيل بأنفسهم. كما سيساهم التمويل الذي تقدمه شركة "جونسون للأطفال" في إثيوبيا، في تمكين مؤسسة Save the Children من حشد طاقات أصحاب المصلحة المعنيين لإطلاق خدمات تسجيل المواليد في مناطق جديدة. أما في لبنان، سندعم مؤسسة Save the Childrenبكفاءة عالية لتوجيه الأهالي خلال عملية تسجيل أطفالهم، مع إحالتهم إلى الخدمات القانونية في الحالات الأكثر تعقيداً.

حددت "جونسون للأطفال" هدفها ببناء عالمٍ مشرق لكل طفل، ولكن توفير المستحضرات اللطيفة والشامبو للمستهلكين لا يفي بالغرض دوماً. ففي النهاية، جلّ ما نبتغيه من كل ما نقوم به ونقدمه هو جعل الحياة أسهل بالنسبة للأطفال وأهاليهم على حدٍ سواء. وقد يتطلب الأمر أحياناً ورقةً صغيرة تُحدِث فرقاً كبيراً وتمنحهم بدايةً صحيحةً لحياتهم من جديد.